سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية، قطع هاهنا ببيان الأحكام الشرعية، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين، لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر، فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {أَلَمْ تَرَ} معناه: ألم ينته علمك إلى هؤلاء، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ إبراهيم} [البقرة: 258] وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية، فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم.
المسألة الثانية: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب: هم اليهود، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن قوله بعد هذه الآية: {مّنَ الذين هَادُواْ} [النساء: 46] متعلق بهذه الآية.
الثاني: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود، كانا يأتيان رأس المنافقان عبدالله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام.
الثالث: أن عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن، فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى.
المسألة الثالثة: لم يقل تعالى: انهم أوتوا علم الكتاب، بل قال: {أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب} لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام، ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأما الذين أسلموا كعبدالله بن سلام وعرفوا الأمرين، فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب، فقال: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] والله أعلم.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: الضلال والإضلال، أما الضلال فهو قوله: {يَشْتَرُونَ الضلالة} وفيه وجوه:
الأول: قال الزجاج: يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة، وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره.
الثاني: أن في الآية إضمارا، وتأويله: يشترون الضلالة بالهدى كقوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] أي يستبدلون الضلالة بالهدى، ولا إضمار على قول الزجاج.
الثالث: المراد بهذه الآية عوام اليهود، فانهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها، فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة، ولا إضمار على هذا التأويل أيضا، ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم، ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالإضلال فقال: {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم؛ لكي يخرجوا عن الإسلام.
واعلم أنك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والإضلال.
ثم قال تعالى: {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء.
ثم قال تعالى: {وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً} والمعنى أنه تعالى لما بين شدة عداوتهم للمسلمين، بين أن الله تعالى ولي المسلمين وناصرهم، ومن كان الله وليا له وناصرا له لم تضره عداوة الخلق، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته له، فذكر النصير بعد ذكر الولي تكرارا.
والجواب: أن الولي المتصرف في الشيء، والمتصرف في الشيء لا يجب أن يكون ناصرا له فزال التكرار.
السؤال الثاني: لم لم يقل: وكفى بالله وليا ونصيرا؟ وما الفائدة في تكرير قوله: {وكفى بالله}.
والجواب: أن التكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة.
السؤال الثالث: ما فائدة الباء في قوله: {وكفى بالله وَلِيّاً}.
والجواب: ذكروا وجوها، الأول: لو قيل: كفى الله، كان يتصل الفعل بالفاعل.
ثم هاهنا زيدت الباء إيذانا أن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في الرتبة وعظم المنزلة.
الثاني: قال ابن السراج: تقدير الكلام: كفى اكتفاؤك بالله وليا، ولما ذكرت كفى دل على الاكتفاء، لأنه من لفظه، كما تقول: من كذب كان شرا له، أي كان الكذب شراً له، فأضمرته لدلالة الفعل عليه.
الثالث: يخطر ببالي أن الباء في الأصل للإلصاق، وذلك إنما يحسن في المؤثر الذي لا واسطة بينه وبين التأثير، ولو قيل: كفى الله، دل ذلك على كونه تعالى فاعلا لهذه الكفاية، ولكن لا يدل ذلك على أنه تعالى يفعل بواسطة أو بغير واسطة، فإذا ذكرت حرف الباء دل على أنه يفعل بغير واسطة، بل هو تعالى يتكفل بتحصيل هذا المطلوب ابتداء من غير واسطة أحد، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16].


{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور:
أحدها: أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في متعلق قوله: {مِنَ الذين} وجوه:
الأول: أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، والتقدير: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا، والثاني: أن يتعلق بقوله: {نَصِيراً} والتقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، وهو كقوله: {ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} [الأنبياء: 77] الثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، و{يُحَرّفُونَ} صفته. تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه.
الرابع: أنه تعالى لما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة} [النساء: 44] بقي ذلك مجملا من وجهين، فكأنه قيل: ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب؟ فأجيب وقيل: من الذين هادوا، ثم قيل: وكيف يشترون الضلالة؟ فأجيب وقيل: يحرفون الكلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع مؤنث، فكان ينبغي أن يقال: يحرفون الكلم عن مواضعها.
والجواب: قال الواحدي: هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره، ويمكن أن يقال: كون الجمع مؤنثا ليس أمراً حقيقياً، بل هو أمر لفظي، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرئ، يحرفون الكلم.
المسألة الثالثة: في كيفية التحريف وجوه:
أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم ربعة عن موضعه في التوراة بوضعهم آدم طويل مكانه، ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله ونظيره قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله} [البقرة: 79].
فإن قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟
قلنا لعله يقال: القوم كانوا قليلين، والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف، والثاني: أن المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح.
الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه.
المسألة الرابعة: ذكر الله تعالى هاهنا: {عَن مواضعه} وفي المائدة {مِن بَعْدِ مواضعه} [المائدة: 41] والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة، فهاهنا قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، فهاهنا قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب.
وأما الآية المذكورة في سورة المائدة، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة، وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب، فقوله: {يُحَرّفُونَ الكلم} إشارة إلى التأويل الباطل وقوله: {مِن بَعْدِ مواضعه} إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.
النوع الثاني: من ضلالاتهم: ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وفيه وجهان:
الأول: أن النبي عليه السلام كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر: سمعنا، وقالوا في أنفسهم: وعصينا والثاني: أنهم كانوا يظهرون قولهم: سمعنا وعصينا، إظهاراً للمخالفة، واستحقاراً للأمر.
النوع الثالث: من ضلالتهم قوله: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ}.
واعلم أن هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم، ويحتمل الاهانة والشتم.
أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها، وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه:
الأول: أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، فقوله: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} معناه: غير سامع، فإن السامع مسمع، والمسمع سامع.
الثاني: غير مسمع، أي غير مقبول منك، ولا تجاب إلى ما تدعو اليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك ما أسمعت شيئا.
الثالث: اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، ومتى كان كذلك فإن الإنسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه، فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح، فكانوا يذكرونها لغرض الشتم.
النوع الرابع: من ضلالاتهم قولهم: {وراعنا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين} أما تفسير {راعنا} فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه:
الأول: أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية، فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثاني: قوله: {راعنا} معناه ارعنا سمعك، أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم، وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام، بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم.
الثالث: كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك، وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم.
الرابع: أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم: {راعنا} راعينا، وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا، وقوله: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} قال الواحدي: أصل (لياً) لويا، لأنه من لويت، ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون، ومثله الطي وفي تفسيره وجوه:
الأول: قال الفراء كانوا يقولون: راعنا ويريدون به الشتم، فذاك هو اللي، وكذلك قولهم: {غير مسمع} وأرادوا به لا سمعت، فهذا هو اللي.
الثاني: انهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق.
الثالث: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية، كما جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذا الأفعال، ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين، لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيا لعرف ذلك، فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم، فانقلب ما فعلوه طعنا في نبوته دلالة قاطعة على نبوته، لأن الإخبار عن الغيب معجز.
فان قيل: كيف جاؤا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا، وقالوا سمعنا وعصينا؟
والجواب من وجهين:
الأول: أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال: إنهم ما كانوا يظهرون قولهم: {وَعَصَيْنَا} بل كانوا يقولونه فى أنفسهم.
والثاني: هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب والشتم.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ} والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم: سمعنا وعصينا، سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولإظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات، وبدل قولهم: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} قولهم واسمع، وبدل قولهم: {راعنا} قولهم: {انظرنا} أي اسمع منا ما نقول، وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم، أي أعدل وأصوب، ومنه يقال: رمح قويم أي مستقيم؛ وقومت الشيء من عوج فتقوم.
ثم قال: {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم.
ثم قال: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وفيه قولان:
أحدهما: أن القليل صفة للقوم، والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون. ثم منهم من قال: كان ذلك القليل عبدالله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك.
والقول الثاني: أن القليل صفة للإيمان، والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء، ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول، قال: لأن قليلا لفظ مفرد، ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا، والمراد به الجمع قال تعالى: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] وقال: {وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج: 10، 11] فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالايمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك، ولقائل أن يقول: كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته، حتى يكون إيمانهم استدلاليا، فلما أمرهم بذلك الايمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالايمان على سبيل التقليد.
والجواب عنه: أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة. ألا ترى أنه قال في الآية الأولى: {ألم ترإِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} [النساء: 44] ولم يقل: ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة،، فلما قال في هذه الآية: {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة، ومن كان كذلك فانه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل، ولهذا قال تعالى: {مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزماً، وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك.
المسألة الثانية: الطمس: المحو، تقول العرب في وصف المفازة، إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس، وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله، وطمست الريح الأثر إذا محته، وطمست الكتاب محوته، وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين: أحدهما: حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه: والثاني: حمل اللفظ على مجازه.
أما القول الأول: فهو أن المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها، فان الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس، فاذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا، ومعنى قوله: {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} رد الوجوه إلى ناحية القفا، وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة، فان هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه، ومما يقرره قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10] فانه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب من وراء ظهورهم، لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان.
فاما القول الثاني: فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، ثم ذكروا فيه وجوها: الأول: قال الحسن: المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي على ضلالتها، والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في صفتهم: {ناكسو رؤسهم} [السجدة: 12].
الثاني: يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير، وبالوجوه: رؤساؤهم ووجهاؤهم، والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الاقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والادبار والمذلة.
الثالث: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وإريحاء من أرض الشام، كما جاؤا منها بدءاً، وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين: أحدهما: تقبيح صورتهم يقال: طمس الله صورته كقوله: قبح الله وجهه، والثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها.
فان قيل: إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني فلا إشكال ألبتة، وان فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه، بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فانه قال: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} وظاهره ليس هو المسخ.
الثاني: قوله تعالى: {ءامَنُواْ} تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم، فلزم أن يكون قوله: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} واقعا في الآخرة، فصار التقدير: آمنوا من قبل أن يجئ وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت.
الثالث: أنا قد بينا أن قوله: {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} خطاب مع جميع علمائهم، فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالايمان، وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبدالله بن سلام وجمع كثير من أصحابه، ففات المشروط بفوات الشرط، ويقال: لما نزلت هذه الآية أتى عبدالله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل اليك حتى يتحول وجهي في قفاي.
الرابع: أنه تعالى لم يقل: من قبل أن نطمس وجوهكم، بل قال: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} وعندنا أنه لابد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة، ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيابهم، بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} فذكرهم على سبيل المغايبة، ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب، وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه.
ثم قال تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} قال مقاتل وغيره: نمسخهم قردة كما فعلنا ذلك بأوائلهم.
وقال أكثر المحققين: الأظهر حمل الآية على اللعن المتعارف، ألا ترى الى قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} [المائدة: 60] ففصل تعالى هاهنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير، وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: الى من يرجع الضمير في قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ}.
الجواب: الى الوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه، لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع الى الذين أوتوا على طريقة الالتفات.
السؤال الثاني: قد كان اللعن والطمس حاصلين قبل الوعيد على الفعل فلابد وأن يتحدا.
والجواب: أن لعنه تعالى لهم من بعد هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في الخزي فيصح ذلك فيه.
السؤال الثالث: قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} خطاب مشافهة، وقوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} خطاب مغايبة، فكيف يليق أحدهما بالآخر؟
الجواب: منهم من حمل ذلك على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ومنهم من قال: هذا تنبيه على أن التهديد حاصل في غيرهم ممن يكذبون من أبناء جنسهم. وعندي فيه احتمال آخر: وهو أن اللعن هو الطرد والابعاد، وذكر البعيد لا يكون إلا بالمغايبة، فلما لعنهم ذكرهم بعبارة الغيبة.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره، على معنى أنه لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله: هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد.
وإنما قال: {وَكَانَ} إخباراً عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه مهما أخبرهم بانزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة، فكأنه قيل لهم: أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعا لا محالة، فاحترزوا الآن وكونوا على حذر من هذا الوعيد، والله أعلم.
المسألة الثانية: احتج الجبائي بهذه الآية على أن كلام الله محدث فقال: قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} يقتضي أن أمره مفعول، والمخلوق والمصنوع والمفعول واحد، فدل هذا على أن أمر الله مخلوق مصنوع، وهذا في غاية السقوط لأن الأمر في اللغة جاء بمعنى الشأن والطريقة والفعل قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] والمراد هاهنا ذاك.

10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17